أهلًا بالحِرَفيّين — انضم إلى شبكة حرفيّي آثارنا. تواصل معنا

صناعة الجنابي (الخناجر) في نجران

  • الكاتبة: جيني غستافسون
  • المصور: كريم مصطفى

يقول الحِرفيّ عبدالرحمن علي أحمد صالح قطيان في ورشته الواقعة في قريةٍ شمالَ نجران: “أفضلُ القطع المعدنية هي المزاليج الثقيلة المأخوذة من الدبابات. تستطيع صنع جنبيّتيْن أو ثلاثة جنابي منهم، ولن تنكسر أبدًا.”

يرفع قطيان يده عاليةً حاملًا بها قطعةً حديديةً طويلةً مع زوجٍ من القواطع المعدنية (الكمّاشة). الحديد ساخن، لونه أحمرٌ حرّاق، إثر رفعه عن النار للتو. جالسًا على الأرض بجوار فرنٍ مفتوح في آخر ورشته الصغيرة، حاملًا الحديد بثبات ورافعًا المطرقة فتتوالى أصواتُ الضربات أثناء تشكيله للحديد، يقول قطيان: “هذا أصعب إجراءٍ في هذه العملية، إذ يتطلب الأمرُ قوةً وقدرةً عالية على التحمل.”

وببطءٍ بالغ، تتّخذُ القطعة الحديدية الشكل المطلوب؛ تتحول القطعة الحديدية العريضة، شيئًا فشيئًا، إلى سلاحٍ حادٍ ورقيق، إلى الجنبية: الخنجرُ التقليدي الذي يرتديه الرجالُ في الجزيرةِ العربية. وفي عمان والإمارات العربية المتحدة، تُسمى هذه القطعة بالخنجر، بينما يسميها السعوديون واليمنيون بالجنبية المشتقة من كلمة “جنب”، رغم أنّ الخناجر ترتدى في المنتصف، أمام البطن مباشرةً.

تقعُ ورشة الجنبية في قلب سوق نجران، بجوار ورشٍ أخرى تمارسُ نفس الحرفة. ومن بواكير الصباح، ينهمكُ الحِرفيّون بتلحيم النصلة (السلّة) وجعلها حادةً ولامعة. ويرتدي معظم الرجال المارّون الجنبية في حزامٍ عريضٍ يلتفّ حول خصرهم فوق ثيابهم البيضاء محميّةً بالغمد المزيّن (العسيب)، والمصنوع من الخشب الخفيف المزدانِ بأقمشةٍ ملونة أو بالجلود أو بالقطع المعدنية المزخرفة. وتختلف طرق تزيين الجنابي إنما الشكل العام يبقى واحدًا: شكلٌ حاد ومنحنٍ.

للجنابي تاريخٌ طويل، إذ كانت تُرتدى في المنطقة منذ 500 سنة قبل الميلاد على الأقل، كسلاحٍ ليدافعوا به عن أنفسهم ضد الحيوانات الوحشيّة والأعداء في بادئ الأمر، واليوم أصبح نادرًا ما تخرج الجنبية عن غمدها، لكنها ما تزال اكسسوارًا ثمينًا ورمزًا للشرف يُرتدى باعتزاز وتتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيل.

“حصلتُ على هذا من جدي حين كنتُ مراهقًا، فأنا الابن الأكبر في العائلة.” قال رجلٌ خارج محل قطيان مرتديًا جنبية فضيةً جميلةً حول خصره تقدرّ قيمتها بحوالي 41 ألف ريال سعودي، وهي أثمن ممتلكات هذه الأسرة. في الماضي، كان الوالدان يمنحان الجنابي لأبنائهم في عمر السابعة أو الثامنة، دلالةً على أنّ مرحلة طفولتهم ستنتهي قريبًا. “والآن ينتظرون غالبًا إلى الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة إذ يُعتقد بمجرد حصولك على الجنبية ينبغي أن تكون مستعدًا للقتال”، يقول محمد المنستير أحد زوار محل قطيان.

ويعد سوق نجران للخناجر الأكبر في المنطقة إلى جانب سوق العاصمة اليمنية صنعاء. ويقود الناسُ سياراتهم لساعات لأجل أن يسنّوا خناجرهم في نجران أو لأجل شراء خناجر جديدة بعد أن يقضوا ساعاتٍ طوال في التفكّر. وهناك أحزمة للجنابي بتطريزٍ فضي وذهبي للبيع، كما تجد الأغمدة الجديدة والمستعملة أيضًا والجنابي. وأرخصها هي المصنّعة بكمياتٍ كبيرة، بينما أثمها وأكثرها ندرة هي القطع العتيقة، والتي تحظى بعنايةٍ واهتمامٍ بالغيْن عند استخدامها. وما تزال أكثر القطع التي يرغب الناس بالحصول عليها هي تلك التي الآتية من المجتمع اليمني اليهودي الذي هاجر البلاد ما بين عاميْ 1948 و1950، إذ بدأ تصنيع الخناجر من كثيرٍ من العوائل اليهودية المعروفة بمهارتها العالية في هذه الصنعة، لدرجة أنّ هذه الحِرفة ما تزال تحمل عبارة “عمل يهودي” عليها.

في إحدى ورش العمل المقابلة لورشة قطيان يجلسُ الأخوان محمد ورحمة علي بجانب بعضهما البعض على الأرض، وقد قدِما إلى نجران من باكستان قبل أكثر من 20 عامًا، وعمِلا في مجال صناعة الخناجر والسكاكين منذ ذلك الحين. “كنا نعمل على البنادق في باكستان، وتنقلنا في عملنا من صناعة سلاحٍ إلى آخر.” يقول رحمة وهو ينظر إلى أخيه متقنًا عمله على النصلة الحديدية.

صاحبُ الخنجر رجلٌ قاد سيارته لساعاتٍ من مدينة خميس مشيط ليصل إلى نجران، يجلسُ على كرسي حاملًا كوبًا صغيرًا من الشاي وينتظرُ بكل صبر. يصقل محمد الخنجر بعناية، إلى أن يصبح حجمه ملائمًا لغمده، ويقول: “تتعلمُ إتقانَ العمل”. ومن المثير للاهتمام أنّ النصل ليس أهم ما في الجنبية، بل رأسها (المقبض). فجودة النصلة تحدد قوة السلاح وشدّة تحمله، لكنّ رأسها هو ما يعبر عن الأهمية الرمزية والمكانة الاجتماعية لصاحبه. يقول المنستير: “أكثر المقابض قيمة هي تلك المصنوعة من وحيد القرن ويعود ذلك إلى جودتها وندرتها كذلك في هذه الأيام”.

يمد قطيان يده ليأتي بمجموعة من المواد باللون البرونزي، وتبدو طبيعية إلا أنها من البلاستيك الممزوج بالفايبر الطبيعي. وأصبح هذا ما يستخدمه هذه الأيام لصنع رؤوس الجنابي: بدائل أرخص وأكثر توفرًا من قرون وحيد القرن غير القانونية. “يُدعى بالوتر، وهو متداولٌ بكثرة بسبب الشكل النهائي للرأس الذي يوحي وكأنها صنعت من وحيد القرن. نستخدم أنواعًا أخرى من القرون أيضًا، كالجواميس والثيران”. وبمجرد استخراجه وصقله وتلميعه، سيكون حجم الرأس ملائمًا لليد. بعدها يتم تزيين الرؤوس بالذهب والفضة، بمسامير صغيرة وأشكالٍ هندسية، والخرزات أو الحلقات المعدنية.

يسهل على الحِرَفيّين معرفة ما إن كانت الجنبية قديمة، وأين تم صنعها من النظر إليها. إذ تتميز الخناجر النجرانية بالحواف المنحنية والحادة، أما خناجر منطقة فيفاء فتُعرف بأنها أطول وأقل انحناءً. وتعتبر السيوف، في مناطق أخرى من المملكة، رموزًا وطنيّة وتُستخدم في الرقصات الشعبية كالعرضة. وغالبًا ما يرتدي أصحاب الجنابي في نجران سكاكين حادة وصغيرة وتكون في حاملٍ مختلف يلتصق خلف الجنبية ليستخدموها في حال كانوا بحاجة لقطعِ أيّ .شيء، يقول

“الجنبية مصدرُ اعتزازٍ لنا، لا نستخدمها لقطع الأشياء، ونبقيها دائمًا حادةً ولامعة.”

المنستير

يلقي قطيان في ورشته بكثيرٍ من الفحم في النار، ويستمر برصّ قطع الحديد بوجه اللهب لئلا تبرد ويصعب تشكيلها. يأتي عميلٌ حاملًا معه قطعة حديد، وقد اعتاد الناسُ على الإتيانِ بقطعهم الخام إلى صنّاع الجنابي. يأخذ قطيان قطعة الحديد، يتفحّصها ويطرقها بخفة بالمطرقة. “لا”، يقولُ للعميل، “جودته سيئة ولن تُصنَع منه جنبية جيدة”. يذهب العميل في حال سبيله. ينظر قطيان إلى الأسفل مجددًا، ويشكّل النصل الساخن بضراوة، وبعد طرقٍ كثيرٍ من الآن، وبعد تثبيته في الرأس المصنوع باهتمامٍ فائق، ستصبح جنبية نجرانية رائعة!